كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهذه القولة تدل على أنه كان فيهم- إلى ذلك الحين- بقية من استعداد صالح. فلم تكن قلوبهم قد قست كما قست من بعد- فهي كالحجارة أو أشد قسوة كما يصفهم من هو أعلم بهم!- فلما أن تبين لهم ضلالهم ندموا وعرفوا أنه لا ينقذهم من عاقبة ما أتوا إلا أن تدركهم رحمة ربهم ومغفرته.. وهذه علامة طيبة على بقية من استعداد في الفطرة للصلاح.
كل ذلك وموسى عليه السلام بين يدي ربه، في مناجاة وكلام، لا يدري ما أحدث القوم بعده.. إلا أن ينبئه ربه.. وهنا يرفع الستار عن المشهد الحادي عشر.
{ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفًا قال بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني فلا تشمت بي الأعداء ولا تجعلني مع القوم الظالمين قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين}..
لقد عاد موسى إلى قومه غضبان أشد الغضب. يبدو انفعال الغضب في قوله وفعله.. يبدو في قوله لقومه:
{بئسما خلفتموني من بعدي أعجلتم أمر ربكم}..
ويبدو في فعله إذا يأخذ برأس أخيه يجره إليه ويعنفه.
{وأخذ برأس أخيه يجره إليه}..
وحق لموسى عليه السلام أن يغضب فالمفاجأة قاسية. والنقلة بعيدة:
{بئسما خلفتموني من بعدي}..
تركتكم على الهدى فخلفتموني بالضلال، وتركتكم على عبادة الله فخلفتموني بعبادة عجل جسد له خوار!
{أعجلتم أمر ربكم}..
أي استعجلتم قضاءه وعقابه! أو ربما كان يعني: استعجلتم موعده وميقاته!
{وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه}..
وهي حركة تدل على شدة الانفعال.. فهذه الألوح هي التي كانت تحمل كلمات ربه. وهو لا يلقيها إلا وقد أفقده الغضب زمام نفسه. وكذلك أخذه برأس أخيه يجره إليه. وأخوه هو هارون العبد الصالح الطيب!
فأما هارون فيستجيش في نفس موسى عاطفة الأخوة الرحيمة، ليسكن من غضبه، ويكشف له عن طبيعة موقفه، وأنه لم يقصر في نصح القوم ومحاولة هدايتهم: {قال ابن أم إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني}..
وهنا ندرك كيف كان القوم في هياجهم واندفاعهم إلى العجل الذهب؛ حتى لهموا بهارون إذ حاول ردهم عن التردي والانتكاس:
{ابن أم}.. بهذا النداء الرقيق وبهذه الوشيجة الرحيمة.
{إن القوم استضعفوني وكادوا يقتلونني}.. بهذا البيان المصور لحقيقة موقفه.
{فلا تشمت بي الأعداء}.. وهذه أخرى يستجيش بها هارون وجدان الأخوة الناصرة المعينة، حين يكون هناك الأعداء الذين يشمتون!
{ولا تجعلني مع القوم الظالمين}..
القوم الذين ضلوا وكفروا بربهم الحق؛ فأنا لم أضل ولم أكفر معهم، وأنا بريء منهم!
عندئذ تهدأ ثائرة موسى أمام هذه الوداعة وأمام هذا البيان. وعندئذ يتوجه إلى ربه، يطلب المغفرة له ولأخيه، ويطلب الرحمة من أرحم الراحمين:
{قال رب اغفر لي ولأخي وأدخلنا في رحمتك وأنت أرحم الراحمين}..
وهنا يجيء الحكم الفاصل ممن يملكه سبحانه!ّ ويتصل كلام الله سبحانه بما يحكيه القرآن الكريم من كلام عبده موسى، على النسق الذي يتكرر في السياق القرآني:
{إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين والذين عملوا السيئات ثم تابوا من بعدها وآمنوا إن ربك من بعدها لغفور رحيم}..
إنه حكم ووعد.. إن القوم الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا.. ذلك مع قيام القاعدة الدائمة: إن الذين يعملون السيئات ثم يتوبون يغفر الله لهم برحمته.
وإذن فقد علم الله أن الذين اتخذوا العجل لن يتوبوا توبة موصولة؛ وأنهم سيرتكبون ما يخرجهم من تلك القاعدة.. وهكذا كان. فقد ظل بنو إسرائيل يرتكبون الخطيئة بعد الخطيئة؛ ويسامحهم الله المرة بعد المرة. حتى انتهوا إلى الغضب الدائم واللعنة الأخيرة:
{وكذلك نجزي المفترين}..
كل المفترين إلى يوم الدين.. فهو جزاء متكرر كلما تكررت جريمة الافتراء على الله، من بني إسرائيل، ومن غير بني إسرائيل..
ووعد الله صادق لا محالة. وقد كتب على الذين اتخذوا العجل الغضب والذلة. وكان آخر ما كتب الله عليهم أن يبعث عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب. فإذا بدا في فترة من فترات التاريخ أنهم يطغون في الأرض؛ ويستعلون بنفوذهم على الأمميين- أو كما يقولون عنهم في التلمود: الجوييم!- وأنهم يملكون سلطان المال، وسلطان أجهزة الإعلام؛ وأنهم يقيمون الأوضاع الحاكمة التي تنفذ لهم ما يريدون؛ وأنهم يستذلون بعض عباد الله ويطردونهم من أرضهم وديارهم في وحشية؛ والدول الضالة تساندهم وتؤيدهم... إلى آخر ما نراه في هذا الزمان.. فليس هذا بناقض لوعيد الله لهم، ولا لما كتبه عليهم.. فهم بصفاتهم هذه وأفعالهم يختزنون النقمة في قلوب البشر؛ ويهيئون الرصيد الذي يدمرهم من السخط والغضب.. إنما هم يستطيلون على الناس في فلسطين مثلًا لأن الناس لم يعد لهم دين! ولم يعودوا مسلمين!.. إنهم يتفرقون ويتجمعون تحت رايات قومية جنسية؛ ولا يتجمعون تحت راية العقيدة الإسلامية! وهم من ثم يخيبون ويفشلون؛ وتأكلهم إسرائيل! غير أن هذه حال لن تدوم! إنها فترة الغيبوبة عن السلاح الوحيد، والمنهج الوحيد، والراية الوحيدة، التي غلبوا بها ألف عام، والتي بها يَغلبون، وبغيرها يُغلبون! إنها فترة الغيبوبة بحكم السموم التي بثتها اليهودية والصليبية في كيان الأمة الإسلامية! والتي تحرسها بالأوضاع التي تقيمها في هذه الأرض الإسلامية.. ولكن هذا كله لن يدوم.. ستجيء الصحوة من هذه الغيبوبة.. وسيفيء أخلاف المسلمين إلى سلاح أسلافهم المسلمين.. ومن يدري فقد تصحو البشرية كلها يومًا على طغيان اليهود! لتحقق وعيد الله لهم، وتردهم إلى الذلة التي كتبها الله عليهم.. فإن لم تصح البشرية فسيصحوا أخلاف المسلمين.. هذا عندنا يقين..
وكانت هذه وقفة للتعقيب على مصير الذين اتخذوا العجل وافتروا على الله، تتوسط المشهد ثم يمضي السياق يكمل المشهد:
{ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون}..
والتعبير القرآني يشخص الغضب. فكأنما هو حي. وكأنما هو مسلط على موسى، يدفعه ويحركه.. حتى إذا {سكت} عنه، وتركه لشأنه! عاد موسى إلى نفسه، فأخذ الألواح التي كان قد ألقاها بسبب دفع الغضب له وسيطرته عليه.
ثم يقرر السياق مرة أخرى أن في هذه الألواح هدى، وأن فيها رحمة، لمن يخشون ربهم ويرهبونه؛ فتتفتح قلوبهم للهدى، وينالون به الرحمة.. والهدى ذاته رحمة. فليس أشقى من القلب الضال، الذي لا يجد النور. وليس أشقى من الروح الشارد الحائر الذي لا يجد الهدى ولا يجد اليقين.. ورهبة الله وخشيته هي التي تفتح القلوب للهدى؛ وتوقظها من الغفلة، وتهيئها للاستجابة والاستقامة.. إن الله خالق هذه القلوب هو الذي يقرر هذه الحقيقة. ومن أعلم بالقلوب من رب القلوب؟
ويمضي السياق بالقصة، فإذا نحن أمام مشهد جديد. المشهد الثاني عشر. مشهد موسى وسبعين من قومه مختارين للقاء ربه:
{واختار موسى قومه سبعين رجلًا لميقاتنا فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي أتهلكنا بما فعل السفهاء منا إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء أنت ولينا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأميّ الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون}..
وتختلف الروايات في سبب هذا الميقات. وربما كان لإعلان التوبة، وطلب المغفرة لبني إسرائيل مما وقعوا فيه من الكفر والخطيئة- وفي سورة البقرة أن التكفير الذي فرض على بني إسرائيل هو: أن يقتلوا أنفسهم، فيقتل المطيع منهم من عصى؛ وقد فعلوا حتى أذن لهم الله بالكف عن ذلك، وقبل كفارتهم- وهؤلاء السبعون كانوا من شيوخهم ومن خيرتهم. أو كانوا هم خلاصتهم التي تمثلهم، فصيغة العبارة: {واختار موسى قومه سبعين رجلًا لميقاتنا} تجعلهم بدلًا من القوم جميعًا في الاختيار..
ومع هذا فما الذي كان من هؤلاء المختارين؟ لقد أخذتهم الرجفة فصعقوا. ذلك أنهم- كما ورد في السورة الأخرى طلبوا إلى موسى أن يروا الله جهرة، ليصدقوه فيما جاءهم به من الفرائض في الألواح.. وهي شاهدة بطبيعة بني إسرائيل، التي تشمل خيارهم وشرارهم، ولا يتفاوتون فيها إلا بمقدار، وأعجب شيء أن يقولوها وهم في مقام التوبة والاستغفار!
فأما موسى عليه السلام فقد توجه إلى ربه، يتوسل إليه، ويطلب المغفرة والرحمة، ويعلن الخضوع والاعتراف بالقدرة:
{فلما أخذتهم الرجفة قال رب لو شئت أهلكتهم من قبل وإياي}..
فهو التسليم المطلق للقدرة المطلقة من قبل ومن بعد، يقدمه موسى بين يدي دعائه لربه أن يكشف عن القوم غضبه؛ وأن يرد عنهم فتنته، وألا يهلكهم بفعلة السفهاء منهم.
{أتهلكنا بما فعل السفهاء منا}..
وقد جاء الرجاء بصيغة الاستفهام. زيادة في طلب استبعاد الهلاك.. أي: رب إنه لمستبعد على رحمتك أن تهلكنا بما فعل السفهاء منا.
{إن هي إلا فتنتك تضل بها من تشاء وتهدي من تشاء}..
يعلن موسى عليه السلام إدراكه لطبيعة ما يقع؛ ومعرفته أنها الفتنة والابتلاء؛ فما هو بغافل عن مشيئة ربه وفعله كالغافلين!. وهذا هو الشأن في كل فتنة: أن يهدي الله بها من يدركون طبيعتها ويأخذونها على أنها ابتلاء من ربهم وامتحان يجتازونه صاحين عارفين. وأن يضل بها من لا يدركون هذه الحقيقة ومن يمرون بها غافلين، ويخرجون منها ضالين.. وموسى عليه السلام يقرر هذا الأصل تمهيدًا لطلب العون من الله على اجتياز الابتلاء:
{أنت ولينا}..
فامنحنا عونك ومددك لاجتياز فتنتك، ونيل مغفرتك ورحمتك:
{فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الغافرين}..
{واكتب لنا في هذه الدنيا حسنة وفي الآخرة إنا هدنا إليك}..
رجعنا إليك، والتجأنا إلى حماك، وطلبنا نصرتك.
وهكذا قدم موسى عليه السلام لطلب المغفرة والرحمة، بالتسليم لله والاعتراف بحكمة ابتلائه، وختمه بإعلان الرجعة إلى الله والالتجاء إلى رحابه. فكان دعاؤه نموذجًا لأدب العبد الصالح في حق الرب الكريم؛ ونموذجًا لأدب الدعاء في البدء والختام.
ثم يجيئه الجواب:
{قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء}..
تقريرًا لطلاقة المشيئة، التي تضع الناموس اختيارًا، وتجريه اختيارًا: وإن كانت لا تجريه إلا بالعدل والحق على سبيل الاختيار أيضًا، لأن العدل صفة من صفاته تعالى لا تتخلف في كل ما تجري به مشيئته، لأنه هكذا أراد.. فالعذاب يصيب به من يستحق عنده العذاب.. وبذلك تجري مشيئته.. أما رحمته فقد وسعت كل شيء؛ وهي تنال من يستحقها عنده كذلك: وبذلك تجري مشيئته، ولا تجري مشيئته سبحانه بالعذاب أو بالرحمة جزافًا أو مصادفة. تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.